بقلم: الدكتور عبد الوَدود نفيس
اللسان، رغم أنه لا يحتوي على عظام، فإنه السلاح الأكثر حدة الذي يملكه الإنسان. من خلال اللسان، يمكننا نشر الخير بقدر المحيطات أو زرع الأشواك التي تؤذي الآخرين. اللسان المحفوظ يُشبه الجوهرة التي تبعث نورًا لمن حولها، أما إذا لم يُتحكم فيه، فقد يتحول إلى نار تحرق كل الخير. في حياة المسلم، الحفاظ على اللسان ليس مجرد مسألة أخلاقية فحسب، بل هو ركيزة من ركائز الإيمان التي تحدد من نحن أمام الله وأمام الناس.
كم مرة نندم على كلماتنا التي خرجت عن السيطرة؟ وكم مرة تسببت كلماتنا في إثارة الفتنة وسوء الفهم؟ هنا تكمن أهمية الحفاظ على اللسان. فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المسلم الحقيقي هو من يحفظ لسانه عن إيذاء الآخرين. حقًا، الكلمات الطيبة يمكن أن تبني الأخوة وتنشر السلام وتجعلب رضا الله. لذلك، دعونا نتأمل في أهمية الحفاظ على اللسان، ليس فقط من أجل الخير الشخصي ولكن أيضًا من أجل بناء حياة مليئة بالمعنى والوئام.
أهمية الحفاظ على اللسان في حياة المسلم
١. الامتثال لأمر الله ورسوله
الحفاظ على اللسان هو شكل من أشكال الطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فقد ذكر الله في القرآن الكريم أن كل كلمة يقولها الإنسان تسجلها الملائكة كمسؤولية في الآخرة، كما في قوله تعالى في سورة ق: 18: “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.” من خلال الحفاظ على اللسان، يُظهر المسلم الطاعة لأمر الله ووعيه بأن كل تصرف بما في ذلك القول سيُحاسب عليه.
٢. حماية النفس من الذنوب الكبيرة
اللسان هو مصدر للكثير من الذنوب، مثل الفتنة، الغيبة، النميمة، والكذب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يُستقيم إيمان عبد حتى يُستقيم قلبه، ولا يُستقيم قلبه حتى يُستقيم لسانه.” (رواه أحمد). الكلمات السيئة مثل هذه لا تهدد الشخص فقط، بل تضر بالعلاقات الاجتماعية وقد تؤثر سلبًا على الآخرين. الحفاظ على اللسان هو خطوة مهمة لحماية النفس من الذنوب الكبيرة التي قد تؤدي إلى عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة.
٣. تحسين والحفاظ على العلاقات الاجتماعية
الإسلام يوصي بتحقيق الأخوة بين المسلمين. اللسان غير المحفوظ، مثل النقد المستمر أو السخرية أو الكلام القاسي، قد يدمر العلاقات الطيبة والأخوة. وعلى العكس، اللسان الذي يتكلم بالكلام الطيب والمهذب سيعزز العلاقات الاجتماعية ويجلب السلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” (رواه البخاري ومسلم). لذا، الحفاظ على اللسان يعني المساهمة في الحفاظ على الوحدة والانسجام في المجتمع.
٤. الحفاظ على الشرف الشخصي وشرف الآخرين
اللسان هو مرآة شخصية الشخص. من خلال القول الطيب وتجنب الكلمات السيئة، يحافظ المسلم على شرفه أمام الله والناس. كما أن الحفاظ على اللسان يعني احترام شرف الآخرين. تجنب اللعن، والفتنة، أو السخرية من الآخرين هو جزء من آداب الإسلام التي تشدد على احترام كرامة الإنسان.
٥. الحصول على رضا الله وطلب الأجر
الله يثيب الشخص الذي يحفظ لسانه ويقول الكلمات الطيبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن العبد ليقول الكلمة من رضى الله لا يُلقي لها بالًا، يرفع الله بها درجاته في الجنة.” (رواه البخاري). كل كلمة طيبة، مثل قول السلام، الدعاء للآخرين، أو التحدث بلطف، تُسجل كعمل صالح يُحصل عليه أجر ويقرب الإنسان من الله.
٦. منع النزاعات والعداوات
الكثير من النزاعات والانقسامات تنشأ بسبب الكلمات غير المحكومة. الكلمات القاسية أو الفتنة أو الكلمات التي تُقلل من قيمة الآخرين غالبًا ما تكون السبب الرئيسي للخلافات. من خلال الحفاظ على اللسان، يمكن للمسلم تجنب النزاعات والحفاظ على السلام في حياته اليومية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من آمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت” (رواه البخاري ومسلم).
٧. التعبير عن الإيمان والأخلاق الحميدة
اللسان المحفوظ يعكس إيمان وأخلاق المسلم. الكلمات الطيبة، المهذبة، والمليئة بالحكمة تظهر جمال الإسلام وتلهم الآخرين ليتبعوا هذا المثال. الحفاظ على اللسان في الأوقات العاطفية أو في الظروف الصعبة هو تعبير عن الصبر وقوة الإيمان.
٨. تشكيل شخصية حكيمة
القدرة على الحفاظ على اللسان واختيار الكلمات الحكيمة تظهر النضج العاطفي والروحي. في العديد من الحالات، الشخص الحكيم لا يتسرع في الكلام، بل يأخذ في اعتباره تأثير كلماته قبل قولها. هذا يعكس الحكمة، وهي القدرة على التفكير طويلًا والتصرف بحذر.
٩. تجنب الندم في المستقبل
الكلمات غير المحكومة قد تؤدي إلى الندم في المستقبل. في حالة الغضب أو العجلة، قد نقول أشياء تضر بالعلاقات أو تجرح الآخرين، والتي يصعب إصلاحها أو سحبها. من خلال الحفاظ على اللسان، يمكن للمسلم تجنب الكلمات التي تضر به أو بالآخرين، وبالتالي يتجنب الندم في المستقبل.
الخاتمة:
الحفاظ على اللسان يشبه زراعة بذرة ستنمو لتصبح شجرة مباركة في حياتنا. في كل كلمة نقولها، توجد قوة قد تتحول إلى أجر عظيم أو إلى خطيئة تُورطنا. اللسان ليس مجرد أداة للتحدث؛ إنه هو الذي يحدد مصيرنا أمام الله وأمام الناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن القول هو مرآة الإيمان، وأن الشخص الحكيم سيختار إما القول الطيب أو الصمت.
لذا، دعونا نعتبر كل كلمة نقولها مرآة لخيرنا وكرم أخلاقنا. كل كلمة نلفظها هي خطوة نحو حياة سلمية، مليئة بالحب، والبركة. من خلال الحفاظ على اللسان، لا نحمي أنفسنا فقط من الذنوب، ولكن نفتح الطريق إلى رضا الله والأخوة المتينة. نسأل الله أن يمنحنا القوة للحفاظ على ألسنتنا وتزيين حياتنا بكلمات تجلب الخير في الدنيا والآخرة.
المراجع:
١. القرآن الكريم
النووي، الإمام. رياض الصالحين. ترجمة أبو إحسان الأطهري. الناشر: أم القرى، 2014.
٣. الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين. ترجمة معمر زين العابدين، 2020
٤. الشاروي، محمد متولي. تفسير الشاروي: الحكمة والمعنى في كل آية. الناشر: زمان، 2015
٥. القرضاوي، يوسف. أخلاق المسلم: دراسة شاملة للأخلاق في الإسلام. الناشر: ميزان، 2010
٦. البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. ترجمة أحمد حكيم، 2012
٧. مسلم بن الحجاج. صحيح مسلم. ترجمة زين العابدين، 2013
٨. حمكة، حجي عبد الملك كريم أمروه. التصوف العصري. مكتبة بنجاب، 2016
٩. شهاب، قريش. توظيف القرآن: وظائف ودور الوحي في حياة المجتمع. الناشر: لنترا هاتي، 2008
.١. زهرة، فاطمة. أخلاقيات الحديث في منظور الإسلام: الحفاظ على اللسان كمرآة للإيمان. مجلة علوم الدعوة، 2019.