بقلم الدكتور عبد الودود نفيس، ل
المقدمة
إنّ مقاصد الشريعة (Objectives of Islamic Law) تُعد علماً يُشكّل روح وبناء الفكر الفقهي الإسلامي. فهي تتجاوز مجرد ضمان صحة النص (نصّ الشارع) لتغوص في سؤال «لماذا وضعت هذه الشريعة؟ وما مقصودها؟» ففهم المقاصد يَحفظ الشريعة حيّةً، ذات مرونة، وذات صلة بحاجات الإنسان؛ وتعمل دومًا على إيجاد مصلحة ومنع مفسدة للبشر.
لم تنشأ نظرية مقاصد الشريعة دفعةً واحدة أو بصورةٍ نظامية، بل ثَمت تطور فكري طويل. ثلاثة منارات فكرية سطّرت هذا الطريق: الإمام الجويني، الإمام الغزالي، والإمام عز الدين عبد السلام، الذين وضعوا الأساس النظري، وأرسوا الإطار، وطبّقوا النظرية عملياً. دراسة آرائهم إلزامية لفهم تطور الفقه الإسلامي وتأصيله، فضلاً عن استخدامها المعاصر في معالجة التحديات الحديثة بعمق فلسفي وليس مجرد نصّي.
ثانياً: لمحة عن علماء المقاصد في سياقهم الفكري
1. الإمام الجويني (ت. 478 هـ / 1085 م)
اللقب: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، الإمام الحرمين، لكثرة تدريسه في مكة والمدينة. وُلد في جوين بضواحي نيسابور، وعاصر صراعات علمية وسياسية بين الأشاعرة والمعتزلة. يُعد من روّاد أصول الفقه الشافعي، وأشهر كتبه: البرهان في أصول الفقه والورقات.
2. الإمام الغزالي (ت. 505 هـ / 1111 م)
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، يُلقّب بـ “حجة الإسلام”. تلميذ الجويني وتأثّر به، ثم مرّ بأزمة روحية عميقة، تقوده إلى التصوف. ذاع صيته بتوليفه بين الفقه والكلام والفلسفة والتصوف. من أبرز مؤلفاته: المنهَج المستصفى من علم الأصول وإحياء علوم الدين.
3. الإمام عز الدين عبد السلام (ت. 660 هـ / 1262 م)
اللقب: سلطـان العلماء. عاش في حقبة مليئة بالتحديات كالحملات الصليبية والغزو المغولي. تميّز باهتمامه بالعدالة الاجتماعية والقيم العامة، وبتطبيق الفقه في واقع المجتمع. من مؤلفاته: قواعد الأحكام في مصالح العباد والفوائد في اختصار المقاصد.
ثالثاً: تحليل مقاصد الشريعة عند كل إمام
1. الإمام الجويني – “رائد المفاهيم”
أول من صاغ مفهوم الغايات والمسلمات: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، ولو بشكل ضمني، من خلال القياس والمصلحة العامة.
قيم الاحتياجات إلى ثلاث درجات:
الضروريات (الضروريات) – لا غنى عنها لبقاء الدين والنفس.
الحاجيات – لتذليل المشقة، ليست ضرورية للبقاء.
التحسينيات (المكرمات) – جماليات وحُسن أخلاق.
منهجه: استقراء النصوص الشرعية لاستخلاص هذه المقاصد.
2. الإمام الغزالي – “المنهجي المنظم”
طوّر فكرة الجويني وجعل الحماية الخمسة (الدين، النفس، العقل، النسل، المال) العمود الفقري لكل الأحكام الشرعية.
حدّد مصلحة الشريعة الشرعية:
حقيقية (حقيقية وليست خيالية)
شاملة (كُلّية)
محققة أو ظنية بدرجة عليا في تحقيق المنفعة
ربط بين الفقه والأخلاق والتصوف – مثل الزكاة لا تحمي المال فحسب، بل تطهر النفس من الطمع. (إحياء علوم الدين)
3. الإمام عز الدين عبد السلام – “التطبيقي الواقعي”
ركّز على مبدأ المصلحة والمفسدة في التطبيق، وفصّل سلمًا متدرّجًا دقيقًا لإعطاء الأفضلية (أعظم المصلحة، وأقل فيها الضرر).
مفهوم التنازع (“تزاحم”) بين المصالح:
الانصراف إلى الأقل ضرراً،
دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة،
المصلحة الأهم تغلب الأقل أهمية.
رأى أن المصلحة يجب أن تُراعي الجوهر لا الشكل، كما في الصكوك الإسلامية، وسياستها المالية مثل الزكاة تُستخدم أولاً لإغاثة المحتاج (دارورية) قبل التطويرات الشكلية.
إضافة لذلك، استخدم إمامنا عز الدين كلمة واحدة أنجز فيها المقاصد الخمس: “الإحسان” – أن تحسن فعلًا مع الله ومع الناس ومع النفس ومع المخلوقات كافّة.
رابعاً: تطوّر فكري – مقارنة واضحة
الإمام الدور الإسهام الرئيسي المنهج السياق
الجويني الراصد المفاهيمي التصميم الأولي للمقاصد الخمسة وتقسيم المستويات استقراء النصوص أكاديمي-فقهي
الغزالي المنظم النظري وضع المقاصد كجوهر الشريعة وتعريف المنفعة فلسفي-أخلاقي-تصوفي أكاديمي–روحي
عز الدين عبد السلام التطبيق الواقعي أدوات لتطبيق المقاصد في الحياة والفتوى والسياسة موضوعي–مصلح اجتماعي اجتماعي–سياق صراعات وحرب
خامساً: تطبيقات في الاقتصاد والمالية الإسلامية
1. تحريم الربا
الجويني: الربا تهديد لحفظ المال.
الغزالي: الربا يضرّ الدين، النفس، العقل، المال – مفسدة محضة.
عز الدين: في حالات طارئة، يمكن استثناء الربا لتصاريح الضرورة (حفظ النفس أولى).
2. الـصكوك الإسلامية (Sukuk)
الجويني والغزالي: تدعو إلى العدل في الملكية وتجنّب الربا والغرر.
عز الدين: يحثّ على أن تكون صيغة الصكوك قائمة على الحقيقة والمصلحة العامة، لا مجرد سُمْعة شرعية.
3. السياسة المالية – الزكاة وبيت المال
حفظ المال يتضمن توزيعه بعدالة.
عز الدين: توجيه الزكاة أولاً لدرء المجاعات قبل مجالات أخرى (مثل البناء الفاخر)، بحسب سلم الحاجة.
الخلاصة
المشوار الذهبي لمقاصد الشريعة تطوّر عبر ثلاثة عصور:
1. الإمام الجويني – أصل المفاهيم وتصنيف المقاصد.
2. الإمام الغزالي – بناء النظام والربط الأخلاقي.
3. الإمام عز الدين عبد السلام – أدوات للواقع والفعل.
هكذا، تشكّل مقاصد الشريعة وسيلة ديناميكية للاجتهاد، تجعل الشريعة حية وملائمة لكل زمان ومكان، وتساعدنا اليوم على معالجة قضايا الاقتصاد والأخلاقيات والعدل الاجتماعي وتقنيات الحياة بمرشد عادل إنساني.
الخاتمة
إنّ مقاصد الشريعة كما بَنَاها الأئمة الثلاثة تُشكّل منهجاً للاجتهاد المتجدد، الذي يضمن حيوية الشريعة ويجعلها صالحة لكل زمان ومكان (ṣāliḥ li-kulli zamān wa-makān).
من خلال هذه المقاربة، تصبح الشريعة الإسلامية أداة إصلاح اجتماعي شامل، لا مجرد مجموعة من الأحكام الجامدة. الفكر المقاصدي كما صاغه هؤلاء العلماء:
يُحقق التوازن بين النص والمصلحة،
يربط بين الظاهر والباطن في التشريع،
ويمكّن من اتخاذ قرارات شرعية قائمة على العدالة والرحمة والمصلحة العامة.
في زمننا الحاضر، حيث تتعاظم التحديات في مجالات الاقتصاد، والبيئة، والتكنولوجيا، والحوكمة، فإن العودة إلى مقاصد الشريعة بقراءتها الأصيلة – كما فهمها الجويني، والغزالي، وعز الدين عبد السلام – يُعدّ ضرورة لا ترفاً.
المراجع
١. الإمام الجويني. البرهان في أصول الفقه.
٢. الإمام الغزالي. المستصفى من علم الأصول.
٣. الإمام الغزالي. إحياء علوم الدين.
٤. الإمام عز الدين عبد السلام. قواعد الأحكام في مصالح الأنام.
٥. جاسم عودة. مقاصد الشريعة: فلسفة القانون الإسلامي – منهج النظم.
٦. أشرف واجدي دوسوكي. “هل يمكن للمسلمين الاستفادة من مقاصد الشريعة في تطوير الاقتصاد والمالية الإسلامية؟”
٧. هيرو سوسانتو وأغسطينا كومالا ديوي. “مساهمة الجويني في نظرية المقاصد في كتاب البرهان”. مجلة Bilancia، المجلد 18(2)، 2024.
٨. إحسان نور رزقي. “مقاصد الشريعة من منظور الإمام الحرمين الجويني”. مجلة El-Faqih، المجلد 7(2)، 2021.
٩. “تطبيق مقاصد الشريعة عند الإمام عز الدين بن عبد السلام”. إسلام كافّة، 17 مارس 2020.